الإمام بداه وجهوده الإصلاحية الكبرى

بقلم: محمد الحافظ الغابد // بفقدان موريتانيا لعلامتها ومصلحها الكبير الإمام بداه ولد البصيري تكون قد خسرت مصلحا قل نظيره في المصلحين، وإماما مجددا ندر أن يوجد له مثيل في المجددين، فقد وفقه الله تعالى لنشر دعوة الإسلام والصدع بكلمة الحق أمام الظلمة من الناس والطغاة من الحكام خلال الخمسين عاما الماضية التي واكب خلالها نشأة الحاضرة في مجتمع البادية ،فكان المرشد والموجه والمعلم الذي نهل من علمه الكثيرون ،وكان الواعظ والمربي الذي ينهل من هديه ودله الجميع ،فهو المكرع العذب والمنهل الصافي رحمه الله رحمة واسعة .

وسنحاول من خلال هذه السطور أن نشير لخطوط عريضة من هذه الجهود التي هي معالم بارزة مشهودة معلومة يعرفها أهل البلاد جميعا ولكن الشهادة بالحال في هذا المقام هي من العزاء الواجب لتلاميذ الشيخ ومحبيه في مختلف بقاع الأرض.

أولا: نشأة الإمام العلمية:

ولد الإمام العلامة محمد بن محمدو بن أحمدو بن البصيري الملقب بداه سنة 1338 هــ 1920مــ ونشأ في بيئة علمية فحفظ القرآن وهو دون العاشرة وأخذ سندا في قراءة الإمام نافع بروايتي ورش وقالون وسندا في قراءة ابن كثير، ثم اشتغل بتحصيل العلم آخذا عن مشاهير علماء بلاده وفي مقدمتهم العلامة الشيخ أحمد ولد أحمذي صاحب النظم الشهير في تفسير الكتاب العزيز الذي لم يصنف مثله قبله في البلاد الإسلامية كما يرى العديد من الباحثين.

وقد أخذ الإمام عن جلة من الشيوخ والعلماء الأفاضل في موريتانيا من أهمهم:

1- الشيخ العلامة محمد سالم بن آلما المتوفى سنة 1383هــ

2- الشيخ العلامة محمد بن المحبوبي المتوفى سنة 1385هــ

3- الشيخ العلامة محمد عال بن عبد الودود المتوفى سنة 1387هــ

4- الشيخ العلامة المختار بن ابلول المتوفى سنة 1398هــ

وغير هؤلاء فهو رحمه الله ظل يدرس العلوم الشرعية ويطالع ويصنف لمدة عقود تنبؤ بذلك مصنفاته المتنوعة وفتاواه المتعددة في شتى الفنون ،وقد جمع رحمه الله بين انتسابه للمدرسة الفقهية التجديدية التي يعتبر رائدها الأول بلا منازع في موريتانيا والانتساب للتصوف الذي برز فيه كإمام ومرجعية صوفية، ثم بدأ يشق طريقته الإصلاحية متعددة الجوانب والاهتمامات فهو قد اهتم بالإصلاح في ثلاث مجالات رئيسية أخذت جل اهتمامه،وله مواقف إصلاحية تضعه على قائمة من اهتم بأمر الإصلاح في هذا الركن القصي من العالم الإسلامي، فهو في الحقيقة من أضراب الشيخ محمد عبد والأفغاني والشيخ رشيد رضا ومدارسهم الإصلاحية وإن تأخر به الزمن ونأت به الدار هنا في "بلاد المنكب البرزخي" .

ثانيا: مجالات جهوده الإصلاحية :

1-معركة الأصول والفروع :

فقد اهتم بإصلاح المدرسة الفقيهة المالكية في البلاد عبر الحث على التبصر والاجتهاد لمن تتوفر لديهم الأهلية العلمية للاجتهاد داعيا إلى نبذ التقليد، وانتشل طلابه من الغرق في تحصيل الفروع دون الأصول ،وأعاد في مصنفاته الاعتبار للمدرسة الأصولية والحديثية في المذهب المالكي دون أن يتجنى على المدرسة الفروعية التي ظلت حاضرة عبر مقرراتها في مدرسته أو على الأصح "محظرته" التي تعتبر من أقدم المحاظر في العاصمة نواكشوط.

 

وقد صنف الإمام بداه كتابه:" أسني المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج على مذهب الإمام مالك" لمعالجة قضية منهجية وجوهرية في الفقه المالكي وأصوله تتمثل في تقديم متأخري فقهاء المالكية العمل بمشهور المذهب على العمل بالراجح ،ولمعرفة أهمية المسألة لابد من إدراك المقصود بالمشهور والمقصود بالراجح.

فـــ"المشهور ما كثر قائله" بين الفقهاء في المذهب وكثيرا ما يتعارض مع الراجح وهو "ما قوي دليله" وهذا الجمود على المشهور في الفقه المالكي يعتبره الإمام نتيجة من نتائج ضعف الفقه في العصور المتأخرة ،مع أن التنافس بين الرأي والأثر قديم يرجع إلى عهد ابن القاسم وابن وهب حيث مثل الأول مدرسة الرأي التي تمثلها المدونة بينما ظل الثاني مخلصا للمدرسة الأثرية التي يمثلها مذهب مالك بامتداداته التاريخية وجذوره العريقة في المدينة النبوية كما يمثلها موطأ مالك نفسه.

وقد بذل لإمام بداه جهدا مقدرا في سبيل إعادة التوازن للمذهب المالكي الذي اختل توازنه في القرون الأخيرة لصالح مدرسة الرأي الفروعية حاثا على نبذ التقليد واتباع السنة المطهرة وجاء العديد من مؤلفاته مهتما بإرساء معالم إصلاحية كبرى في هذا السبيل من أهمها إضافة إلى كتاب أسنى المسالك المتقدم:

- القول المفيد في ذم قادح الاتباع ومادح التقليد

- الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس

- القول المبين في الرد على من قال بالتزام مذهب معين

- القول السديد في الرد على أهل التقليد

- منظومة الانتصار للسنة

ولا يمكن أن يدرك أهمية الجهود الإصلاحية التي قام بها الإمام رحمه الله إلا من عايش الصراع الذي كان سائدا في المحاظر الموريتانية حول هذه المباحث وحيث كانت المدرسة الفروعية قوية الشوكة مرهوبة الجانب تتقوى بنصرة عشرات الفقهاء النابهين الذين يحظون بمكانة مرموقة في المجتمع ويبثون رؤيتهم التي تساندها العادة وإلف الناس لها واستقرارها كعرف مدرسي اجتماعي كامل الشرعية ،وكل دعوة سوى ذلك تعتبر وافدة وتواجه الشكوك والظنون وتفقد الشرعية في الحس الجمعي العام.

2- علم الكلام الأشعري ومذهب السلف:

اهتم الإمام الراحل بداه ولد البصيري رحمه بالعودة بالعقائد إلى منابعها الصافية من كتاب وسنة في إطار فهم سلف الأمة بعيدا عن التعقيدات التي جرها علم الكلام على عقائد التوحيد حيث ابتعدت عن أصالتها وأضحت رهينة قوالب المنطق وأطروحات علم الكلام المعقدة.

وقد عالج الإمام في كتابه "تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر" مسائل التأويل والإجراء على الظواهر الذي عده بعض الأشاعرة تجسيما فنبه الشيخ في كتابه هذا إلى أن التفويض لا ينافي الإجراء على الظواهر الذي استقر نكيره لدى كثير من متكلمي أهل السنة.

أما التفويض فهو مذهب للسلف في العقيدة قديم منذ أيام الصحابة والتابعين كما هو مذهب بعض الأشاعرة ،والذي استقر عليه الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله وعبر عنه في كتاب الإبانة عن أصول الديانة كما ذكر مؤرخ الإسلام الكبير الإمام بن عساكر رحمه الله تعالى.

وقد جدد الإمام في هذا الجانب تجديدا تعكسه عناوين كتبه المتنوعة والتي اهتمت بإرساء أسس النقاش العلمي الهادئ الذي يحفظ لأهل العلم فضلهم ومكانتهم مهما كانت آراؤهم مخالفة لرأيه ومن أهم كتبه في هذا المجال:

- تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر

- الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد

- تنبيه الحيارى وتذكرة المهرة في الجمع بين أحاديث الفرار والنهي ولا عدوى ولا طيرة

- تنبه الجماعة على أحاديث أشراط الساعة

- الكتائب الشرعية في صد القوانين الوضعية

وبهذا العلم الغزير الذي أودعه الإمام بطون الكتب وصدور الرجال يكون الإمام قد أسس مدرسة قائمة على الاعتدال في تقويم الرجال والمذاهب ستظل مؤثرة في الأجيال القادمة بعيدا عن مواقف مدارس ظهرت في السنوات الأخيرة في العالم الإسلامي انبثت منها نابتة منزوية اختصت بالزراية على أهل العلم المتقدمين.

3- معركة التشوف على بدع التصوف :

وقد استمعت إليه في مجلسه رحمه الله يتحدث عن تجربته مع التصوف فقال إنه هو نفسه سلك طريق القوم حتى ورد مشربهم وأخذ نفسه بالمجاهدة حتى نهل من معارفهم وشرع لوقت قصير في إعطاء الطريقة ولكنه راجع نفسه لما تأمل سير السلف الأولين والأئمة المتقدمين وفضل الاقتصار على مناهجهم في السلوك.

وهو يعتبر التصوف "النقي من البدع" من التزكية التي ندب إليها القرآن في قوله تعالى:" قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" وكان يدرس حتى في السنوات الأخيرة العديد من متون التصوف مثل مطهرة القلوب لمحمد مولود ولد أحمد فال وكان ينصح بمطالعة إحياء الغزالي مع حاشية عبد الرحيم بن الحسين العراقي التي تركزت حول تخريج الأحاديث الواردة في الإحياء.

ورغم كثرة الطرق الصوفية في موريتانيا فقد ظل الشيخ ينكر البدع القولية والفعلية التي تصدر عن هؤلاء ولكنه ظل يحظى بالاحترام والتقدير لدى جميع الطرق فهو رحمه الله تفرد بكونه إمام المسلمين جميعا ينصحهم ويوجههم بدون مجاملة أو مدارات ولم يحصل ذلك لغيره من العلماء.

ورغم اشتداد النكير على التصوف في البلاد بفعل تنامي تيارات الدعوة الإسلامية خصوصا منها تلك التي تقوم فكرتها على مناهضة الطرق الصوفية إلا أنه ظل صاحب قول عدل يحتفظ للجميع بمكانتهم العلمية والروحية وإن خالفهم الرأي وأنكر عليهم بعض أفعالهم وأقوالهم وبين لهم ما يعتبره شرعا واجب البيان أو دينا واجب الإتباع.

4- إمام الدولة ومرجع الساسة :

ظل الإمام رحمه طودا شامخا لم يستخذ لحاكم ولم يداره في مجتمع عرف ثقافة المداراة خلال قرون سالفة، فهو رحمه الله ظل يصدع بالحق يرشد السلطة ويوجهها وينكر على النخبة المتغربة التي سيطرت على الحياة العامة ويدعو إلى تحكيم الشريعة اٌلإسلامية في البلاد وهو ما تحقق كليا فترة حكم الرائد محمد خونة ولد هيدالة الرجل القوي الصادق في تدينه وتحقق جزئيا من خلال استمرار الصياغة التي اعتمدت للقوانين الوضعية في تلك الفترة لعدة عقود حيث لا تزال آثارها باقية ولم تكن النخب العلمانية تستطيع المطالبة بتغيير القوانين لأنها تهاب الإمام وأضرابه من العلماء.

وكان الساسة يعتبرونه المرجع الذي يلجأ إليه في المشكلات والمعضلات وكان للرجل محبوه وتلامذته الكثر من الساسة والمثقفين في البلاد لأن أسلوبه ومنهجه الزاهد المعرض عن الدنيا وزخرفها يجعل الجميع يجله ويقدره إضافة إلى صدق الإمام وانسجامه مع مبادئه ودعوته القرآنية.

وفي الختام نقول إنه لا يمكن لهذه السطور أن تستوفي معالم الجهود الجبارة التي بذلها الإمام في مجالات الإصلاح الفقهي والسلوكي وحتى السياسي ولكن الذي نؤكد عليه أنه لولا العلم النافع الذي بثه الإمام وتلامذته ومنهجه المتسم بالحكمة والموعظة الحسنة لشهدت موريتانيا هزات عنيفة جراء الفكر الوافد، ونحسب أن منهج الإمام في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر وتصحيح الأخطاء الاجتماعية جدير بأن تقام له معاهد يدرس فيها ومراكز تقام لنشره حتى تستفيد الأمة من تجربة عملية عايشت الواقع وأثرت فيه تأثيرا إيجابيا بالغا جديرا بالإقتداء والتمثل للأجيال الجديدة.

والله وحده هو حسبنا ونعم الوكيل.