الإسلاميون وسؤال الانتماء الأمة أو الوطن؟

طه محمد محمود الواثق

لم يزل الفكر السياسي المعاصر متنازَعا بين رؤى وأطروحات مختلفة في طبيعة وهوية الدولة أو الدائرة التي يريد هذا التيار أو ذاك: ففي حين يريد البعض هوية على أساس العنصر والقومية يريد آخر هوية على أساس المنبت والوطن والجهة؛ وثالث يتخطى تلك الأبعاد ليتخذ إحداثيات أخرى مرجعها العقل والتفكير والأيديولوجيا لا تعترف بالسياقات المكانية التي قد تكون مسرحا للأحداثولا بعنصر الإنسان الذي هو مدار التنزيل العملي للأفكار.

ورغم تقارب مستويات التأثير للأطروحات الثلاث داخل المجتمع العربي الإسلامي إلا أن تقدما مشهودا حصل للتيارين الأخيرين على حساب الأول وهو ما قد يفسره البعض بسبب خفوت النداء "التوحيدي" الذي واكب بواكير التفكير العروبي مع رائده جمال عبد الناصر فلم تترك الانتكاسات المتوالية والمبكرة لهذا المشروع فرصة في تجاوز مرحلة التنظير التجريدي، بدءا بنكبة حزيران 1967 مرورا بوفاة عبد الناصر 1970 وانتهاء بحرب الخليج 1991.

وبعد هذا التراجع آنف الذكر لم يبق الحديث إلا عن طرحين في الغالب؛ رغم ما قد يتخلل كلا منهما من تفصيلات يحتمها السياق وخصوصية التنزيل؛ ففي حين تأثر مفهوم "الوطنية" بتغول مفهوم القطرية على الانتماءات المكانية (جهة كانت أو إقليما) فقد تأثر مفهوم المرجعية الفكرية / العقدية بـ "الدين" كأهم ناظم معنوي يتخطى حدود المكان إلى القلب والوجدان في ظل تراجع المذاهب الأيديولوجية الأرضية لأسباب لسنا في وارد تعديدها لعل أجمعها وأوضحها عدم انسجامها مع عقيدة المجتمع الاسلامي.

وتوقفا مع الحالة الإصلاحية الإسلامية نجد أن المشروع نفسه تأثر بالفكرتين تأثرا بليغا يكاد يجعل من دعاة أحد التيارات صاحب خطاب يعود على مبدئه بالبطلان؛ مما خلق جوا من الإشكالات المتجددة التي تتوارد على رواد المشروع الإسلامي في كل فترة خصوصا مع اقترابه من التنزيل على أرض الواقع ذلك أنه إشكال واقعي يعرض للمشروع كلما اقترب من الأرض والميدانوابتعد عن التنظير المجرد وتوغل في مسارب التفكيك العملي على مسرح التدافع الميداني في هذا البلد أوذاك.

ذلك ما أحست به بعض هذه الحركات فبادرت بالتقعيد النظري والحسم المنهجي فيه متجنبة بذلك أغلب عوائق التفكير، وأرخت حركات أخرى له العنان فبقي إشكالا متجددا لا ينفك يعرض كل حين.

وفي هذه السانحة نحاول أن نستعرض وجهتي النظر هاتين بشيء من التفصيل يتغيى التأصيل في الطرح والتجرد في النقاش.

أولا

 اتجاه الانتماء الشامل:

لقد أسس هذا الاتجاه رؤاه على نصوص شرعية عامة وعلى مقاربة واقعية تطمح لاستعادة مُجود الأمة وتقوّم مسارات الاتجاه الآخر بشيء من النقد والاستدراك قد يصل إلى التخوين على الحفاظ على بيضة الأمة؛ ومن أهم من دشن هذا الاتجاه الداعي إلى وحدة الانتماء وتجاوزه للوطن إلى الدين وللقطر إلى الأمة رواد الصحوة الإسلامية المعاصرة.

حيث نجد رسائل الأستاذ حسن البنا طافحة بهذه المعاني إذ يقول " إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة , فكل بقعة فيها مسلم يقول : لا إله إلا الله , محمد رسول الله وطن عندنا له حريته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيله "[1] ويؤكد على البراءة من الانتماءات الجزئية في قوله في ذات السياق " أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس...فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة وسيئ المغبة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرفه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئا :  (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[2]"

ويذهب أبو الأعلى المودودي إلى أبعد من ذلك بقوله "لو ثمة عدو لدعوة الإسلام بعد الكفر والشرك فهو شيطان القوم والوطن "

وهذا سيد قطب:يعلن أن الإسلام " جاء يرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، ومن وشائج اللحم والدم - وهي من وشائج الأرض والطين - فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله ، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الارتباط في الله ، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوا في " الأمة المسلمة " في " دار الإسلام " ، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله ، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله "[3]

ولعل لهذا التفكير مرجعا غير التأصيل الشرعي حيث أن هناك ظروفا واقعية معيشة حتمت على أي فكر ينشد الإصلاح حينها أن يربط أبناء الأمة بخلافة تلم شتاتها وتوحد كلمتها تلك الخلافة التي لما تجف مآقي أبناء الأمة من خسارتها؛ وأن يرتفع عن سفوح واقع يرون أن العالم الإسلامي وجد نفسه رهينة له بحكم ما بات يعرف باتفاقية "سايكس بيكو".

إن ردة الفعل المباشرة على سقوط الخلافة الإسلامية، ثم تقطيع البلاد على أساس مطامع المستعمر هي أن ترتبط أي دعوة للقومة الإسلامية بشعارات تدلف وجدان الإنسان المسلم ومضامين أصيلة بسيطة لا تحتاج في تسويقها كبير تسويغ.

 

ورغم ما لهذا الاتجاه من أصالة في الرؤية وصراحة في التأصيل وحافزية في الوجدان المجتمعي فإن طرحه لا يبارح المثال والتجريد حيث أنه لم يتمكن من التجسيد على أرض الواقع بل بقي هناك في الخطاب العاطفيوالخُطب الحماسية بعيدا عن التنزيل والتطبيق.

ثانيا

 اتجاه الوطن أولا:

على الضفة الأخرى نجد اتجاها آخر داخل التيار الإسلامي لا يرى تناقضا بين الهويتين (الوطن، الأمة) بل هناك تكامل أو علاقة جزء بكل، ليست ذات طبيعة ندية أو تلاغ.

ولعل من أبرز من انتبهوا لهذا المنحى مبكرا الأستاذ البنا نفسه حيث نادى بأن " العالمية لا تعني التفريط في الأوطان" والشيخ محمد الغزالي والدكتور حسن الترابي ثم تابعهما معظم المفكرين الإسلاميين المعاصرين كالشيخ راشد الغنوشي الذي يقول "إنه لا تناقض في نظر الحركة بين العالمية والوطنية إذ الوطنية هي منطلق العالمية؛ فالمسلم وطني وليس أحد أولى بهذه الصفة منه"[4]والشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى، الذي كان يردد "هذا الارتباط العالمي ننقل به خير الأمة إلى الجزائر وننقل به خير الجزائر إلى الأمة"[5]

ووفق هذه الرؤية فإنه لا تناقض بين الانتماء للوطن وبين الانتماء للأمة إذ أن بين الدائرتين علاقة عموم وخصوص لا تنافر وتقابل، فكل مواطن ينتمي لأمة ولا يلغي ذلك وطنيته ولا حرصه على البذل في سبيل قطره.

من هنا يرى هذا الاتجاه أن التعامل مع الدولة القطرية إنما يدخل في أداء الواجبفنضالهم في بناء هذا القطر يدخل في دائرة ما يسميه الفقهاء فرض العين ويسميه الأصوليون "الواجب المضيق"، فلا أحد من "الأمة" من خارج القطر يقدم بل يستطيع أن يقدم ما على أبناء القطر "المواطنين" من واجبات ميدانية.

"فالانتماء للجماعة الوطنية أو القومية لا يُلغي الانتماء للأمة الإسلامية، والإخلاص للوطن والقوم لا يعني عدم الإخلاص للإسلام"

وهذا ما حدا بحركة التوحيد والإصلاح المغربية أن تعلن التزامها تبني الرؤيتين"إن حركتنا حركة متجذرة في مجتمعها ووطنها وأمتها، وأصيلة في ثقافتها وبيئتها، نابتة من تربتها، ماتحة من ينبوعها، قاصدة لصلاح أهلها وبلدها والأقرب فالأقرب من أمتها والناس أجمعين"[6]

وفي ذات المنحى لا ينفك الإسلاميون الوسطيون في موريتانيا "حزب تواصل" رافعين شعارا مكونا من ثلاث مفردات منهجية حسمت أبرز جوانب هوية حزبهم ـكما أوضحت ذلكم الرؤية المرجعية للحزب [7]ـ من أن "مرجعيتهم: إسلامية، وخيارهم: ديمقراطي، وانتسابهم: وطني" ولعل هذا الكلمات المفاتيح تأتي تلخيصا جامعا لاختياراتهم في موضوعات مهمة من بينها الانتماء، ويظهر الموقف أكثر عندما نراجع الوثيقة الفكرية للحزب "الرؤية الفكرية" بخصوص هذا الموضوع حيث تنص:

"احتضنت هذه البلاد المباركة رسالة الإسلام الحنيف وطوت عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف فكان لها عامل قوة ونهضة وثراء لا منزع فرقة وعداء، موريتانيون بهذه البقعة الكريمة نبتـنا بها وعليها نشأنا، فلها إذا ذكرت الأوطان يتمحض انتماؤنا وتتحد غاياتنا، ومن مقتضيات ذلك الانتماء الذب عن حماها والمحافظة على وحدة أهلها وتقديم مصلحتها على ما سواها ورقي اقتصادها وازدهار تنميتها، وحماية حوزتها الترابية والمحافظة على استقرارها وتعزيز استقلالها ومكانتها في العالم والجوار من حولها"[8]

ولا يخفى أن مما ينطلق منه هذا الاتجاه تأصيلا وثيقة المدينة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم كأول إطار تنظيمي يعنى بترسيم العلاقة بين المجتمع المديني لا ينطلق من أساس ديني بل يتجاوز إلى معيار المواطنة وإقامة مجتمع تعاقدي بين المسلمين وغير المسلمين على أساس القطر ضمن نقاط التقاء هذين المجتمعين بما تمليه الضرورات المرتبطة بالتعايش السلمي واتفاقيات الدفاع المشترك مع تصريح باحترام الخصوصيات الدينية لكل فئة، ولعل في مدلولات هذا التعاقد "الوثيقة" تجاوزا ملحوظا لما يسميه الاتجاه الأول أمة العقيدة إلى أمة أخرى يمكن أن نسميها أمة الوطن.

 

خلاصة:

وبعدُ فإن نظرة فاحصة لأوجه الإشكال تبين أن الخيارين رغم اختلافهما وتباين مؤداهما ظاهرا مرتبطان أو متفاوتان إذ لا يصدران عن ذات المحل مما يتيح لهما الورود في فكر المشروع الواحد في نفس الوقت؛ مما يعني أن علاقة الخصوص والعموم هي التي تميزهما، ومهما قطع المشروع الإسلامي في أحد الخيارين أشواطا طويلة تنظيرا وممارسة فإن عليه أن يظل محتفظا بخط رجعة مع الخيار الآخر ولا يكون في ذلك تناقض ولا تلاغ.

إن الوطنية والانتماء للقطر في مصالحه وكيانه دفاعا وحضورا ومشاركة وقيادية؛ أولويةٌ واقعية مترتبة ومسؤولية وجودية قائمة، وإن الارتباط ب"نسب فكري" يجمع في مفرداته أقطارا في تشكلات إقليمية أو أممية برباط فكري مرجعي عام ضرورة للإفادة والاستفادة ومجال للعمل في المشتركات وخطوة في طريق الوحدة الإسلامية الشاملة.

 

[1]) حسن البنا، رسائل الإمام حسن البنا، ص 07.

[2]) سورة محمد، الآية 38.

[3]) سيد قطب، معالم في الطريق، ص 156.

[4]) راشد الغنوشي / مقال بعنوان "مقومات الحركة الإسلامية واستراتيجيتها"

[5]) د. خونا الجكني / محاضرة بعنوان "الخصائص الفكرية والحركية لمشروع نهضة الأمة"

[6]) موقع حركة التوحيد والإصلاح، خصائصنا المنهجية.

http://alislah.ma/%d8%ae%d8%b5%d8%a7%d8%a6%d8%b5%d9%86%d8%a7-%d8%a7%d9%8...

[7]) الرؤية المرجعية لحزب تواصل صفحات: 2 .3 و6.

[8]) الرؤية المرجعية لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية تواصل ص 3.