بين المفكر والفقيه

إبراهيم الدويري: إن التاريخ الإسلامي عرف الموسوعية والتخصص، كما شهد مفاضلة بين العلوم والمعارف، وقد كان الفقه دوما هو العلم حسب تصنيف المازني المشهور للمشتغلين بعلوم الدين والأدب الذين انتقدهم كلا ما عدا الفقهاء، ونال الفقه مرتبته بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لأهله بالخيرية إذ وفقهم الله لذلك، ولتعلقه بالحلال والحرام المركزيين جدا في الإسلام، وقد لاحظ بعضهم أن الصدر الأول لم يعرف مصطلح الفقهاء وإنما كان القيمون على الفتوى وتعليم الناس يسمون بالقراء،

وقد كانت سلطة الفقيه تضاهي سلطة الحاكم صعودا وهبوطا، ورغم أن الإسلام حض على التفكير والتدبر فإن لفظ المفكر مصطلح حديث النشأة غامض التعريف في أذهان الكثيرين حتى زعموا أن الفكر وظيفة من لا وظيفة له كالمتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، وذلك في نظري راجع لحدوث مهمته المتأخر جدا بعد الهيمنة الغربية على العقول وتهديد الهوية الإسلامية بهويات أخرى مناقضة؛ فوظيفة المفكر حسب النفيسي هي تصحيح المفاهيم،

ورغم أن المفاهيم دوما في حاجة إلى تصحيح إلا أن ما كان يهدد المفاهيم الإسلامية النقية قديما كانت انحرافات داخلية يجمع الغلو بين متناقضاتها، وقد كان المسلمون يضعفون عسكريا واجتماعيا وسياسيا في بعض المناطق ويرتقون في أخرى، بينما التهديد الهوياتي المعاصر جاء بعد السيطرة العسكرية الكاملة وبعد عصور من الانحطاط الإسلامي والتخلف المعرفي، من التعريفات التي وقفت عليها للمفكر أنه "شخص ينصب اهتمامه كله على أفكار ينبغي بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل" مجلة الاجتهاد ع23 ص 99، ومن هنا تعرف الفرق بين المفكر والفقيه، إذ يغلب على الفقيه الإغراق في جزئيات الحاضر وتفريعات ما يرد عليه من مسائل مع الإعراض عن هموم المستقبل كما لخصتها كلمة مالك "دعها حتى تقع"، وقد وُصِمَ الأحنافُ عقلاءُ الفقهاء بأنهم أرائتيون، لكن للأسف غلب على "تأرتهم" التصور الخيالي، ويلاحظ مؤرخو الأفكار أن المشاريع التغييرية غائبة في أطروحات الفقهاء إلا نادرا،

وخصوصا في المجال السياسي، ولعل ذلك راجع للقمع الذي ووجهت به ثوراتهم المطالبة برجوع الأمر شورى زمن بني أمية، فقد أرهقهم سيف الحجاج وجنوده حتى أحدثوا القول ب"الإرجاء"، ومهمة الفقيه أو المفتي هو الإخبار بالحكم الشرعي، وتلك عملية مركبة من معرفة الدليل والمستدل عليه، لكن الفقيه في عصره المتأخر تباعد عن الوحي وتغافل عن الواقع فضعف تأثيره ليأخذ المفكر وظيفة التأثير، فالعالم الإسلامي الآن تحركه أفكار المفكرين لا فتاوى الفقهاء،

ولك أن تقول إن تحريك الفتاوى إن حدث آني كخروج في مظاهرة في إحدى العواصم، بينما أفكار آل قطب ونظرائهم لا تزال على طول العهد تغلي بها الساحات والفنادق والخنادق، إذن يتضح أن لكل من الاثنين وظيفة تشغله عن التطلع إلى وظيفة الآخر، فدور الفقيه متعلق غالبا بالجزئيات بينما المفكر مهموم بأمر الكليات، وقد يلتقي الطرفان في حال ضعفهما أزمنة الجدب الفكري في ساحة لا ماء فيها ولا مرعى من الوحي فتحدث البلبلة والوهن وتضيع السلطة؛ أقصد بالجزئية الأخيرة دور النصوص في ضبط البوصلة الإسلامية، فمنة الله في حفظ كتابه للرجوع له دوما بواسطة أو بدونها؛ اتفو بيه اللا البعد عن القرآن.

خاتمة:

يذكر علي عزت في هروبه إلى الحرية أن "التصوف والمنطق طريقان إلى الله مختلفان"؛ فرغم أن التصوف قائم على التسليم و"سلم تسلم" والمنطق مهموم بالاستدلال العقلي والإقناع الفكري فكل منهم يؤدي إلى الله فلا تستحشوا الطريق ولا تتضايقوا ذرعا ففي الجنة الملتقى، وأعتقد أن ابن الجوزي لو عاصر هذا الجدل لقال إن الشيطان لبس على المحدثين في دعاوى التجديد فراموا القفز في غير مقفز فتاه غير المستعد منهم، وأن المحافظين يصدق فيهم قول علي عزت أيضا "يعتقد بعض الناس أن انتماءهم الديني يحررهم من مسؤولية التفكير"..