في تزكية النفوس

مقدمة : إن إصلاح النفوس والسعي إلى تزكيتها بالإيمان والعمل الصالح وتنقيتها من أدران الشرك والمعاصي والارتقاء بها في مدارج الكمال الإيماني وسلم السمو الأخلاقي والسلوكي من أهم ما ينبغي أن يسعى إلى تحقيقه المربون، وينتبه إلى أهميته المصلحون، إذ القيام بهذه المهمة عنوان الفلاح ومفتاح النصر والسبيل نحو العزة والريادة والسؤدد.

أولاً؛ تعريفها:

• لغة: طهارة النفس ونماؤها وإظهار محاسنها.

• اصطلاحاً: تطهيرها عن الصفات المذمومة وتكميلها وتحليتها بالأعمال الصالحة وتزيينها بجمال التعظم لله - عز وجل.

ثانياً؛ لماذا تزكية النفس؟

1. التأكيد المتكرر في نصوص الكتاب والسنة على ذلك قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 14]، وقال سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9 ]، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * َفإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40 - 41]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من فعلهُنَّ فقد طَعِمَ طَعْمُ الإيمان - وذكر منها - وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: أن يعلم أن الله - عز وجل - معه حيث كان))[1]، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها))[2] .

 

 

 

2. من مقاصد مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - تزكية النفوس لتعبد ربها حق عبادته: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [آل عمران: 164].

 

3. اهتمام السلف الصالح بتزكية النفس وتنقيتها وتطهيرها حيث "اعتنوا بالجانب السلوكي والأخلاقي علماً وفقهاً، كما حققوه عملاً وهدياً، فأفردوا كتباً مستقلة في الزهد والرقائق ونحوهما بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة "كما فعل الإسماعيلي (ت 371 هـ) في "اعتقاد أهل السنة" وأبو إسماعيل الصابوني (ت 449 هـ) في "عقيدة السلف" وإسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت 535 هـ) وابن تيمية في "مجموع الفتاوى والواسطية"( 728) - رحمهم الله.

 

4. الثواب الجزيل الذي أعده الله لمن زكى نفسه بالطاعات وجنبها الفواحش والمنكرات قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ﴾ [طه: 76].

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته

أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

 ثالثاً: من الذي يزكي النفس؛ الله أم الإنسان؟:

وقد تواردت في هذه المسألة عدد من الآيات الكريمة الدالة على معنيين أن الله هو المزكي للنفس من باب التوفيق والدلالة والفاعل المباشر للتزكية هو الإنسان وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ [النساء: 49]، ويقول: ﴿ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، ويقول سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9 - 10]؛ يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فإن العبد إذا زكى نفسه ودساها فإنما يزكيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنما يدسيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه؛ فتضمنت الآيتان الرد على القدرية والجبرية".

رابعاً: كيف نزكي نفوسنا؟

للوصول إلى تزكية النفس ينبغي اعتماد الوسائل الآتية:

1. التوحيد الخالص لله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31] إذ تهوي به الشياطين وتعصف به وتصده عن طاعة ربه ومولاه.

2. فعل الطاعات وترك المحرمات والصبر على ذلك كله: ففي الطاعات نور القلب وانشراح الصدر وهمة الجوارح وفي المحرم ظلمة القلب وضيق الصدر وكسل الجوارح وعجزها.

رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ

وقد يورثُ الذلَّ إدمانها

وتركَ الذنوب حياةُ القلوب

وخيرٌ لنفسك عصيانها

3. طلب العلم الشرعي على يد أهله العارفين بعيوب النفس وتزكيتها وفق نهج الأنبياء يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزكيةُ النفوس أصعبُ من علاج الأبدان وأشدَّ، فمن زكَّى نفسه بالرياضةِ والمجاهدة والخلوةِ التي لم يجيءَ بها الرسل، فهو كالمريضِ الذي يعالجُ نفسَه برأيِه، فالرسلُ أطباءُ القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم والتسليم لهم".

 

 

 

4. محاسبتها ومجاهدتها للتغلب على الهوى والشيطان والدنيا؛ قال ميمونُ بنُ مهران - رحمه الله تعالى -: (لا يكونُ الرجلُ من المتقين حتى يحاسبَ نفسَه أشدَّ من محاسبةِ شريكهِ، حتى يعلمَ من أين مطعمُه، ومن أين ملبسُه، ومن أين مشربُه أمِنْ حلالٍ ذلك أم من حرام).

5. الصحبة النافعة التي تعين على تربية النفس وتزكيتها والبعد عن كل ما يضرها ويهلكها قال علي - رضي الله عنه -:

كم من جاهل أردى

حليماً حين آخاه

يقاس المرء بالمرء

إذا ما المرء ماشاه

 خامساً: ثمار تزكية النفس:

1. الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة؛ "فلا يصلح لِمُلك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهراً بطول التزكية والتطهير قال الله تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9 - 10].

2. راحة البال وسكينة القلب وطمأنينته وانشراح الصدر وسعته: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].

 

 

 

3. الثبات على الدين والطاعة: ﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم:27]، فكلما قويت النفس وتهيأت بالذكر والاستغفار والتوبة والإنابة كلما كانت أقدر بإذن الله على تجاوز العقبات والتغلب على الصعوبات فتثبت ولا تتزحزح.

مراجع:-----------------

1. مدارج السالكين لابن القيم الجوزية.

2. معالم في السلوك وتزكية النفوس د.عبدالعزيز آل عبداللطيف.

3. التبيان في أقسام القرآن.

4. حليه الأولياء.

[1] رواه الطبراني وصححه الألباني في الصحيحة برقم 1046.

[2] أخرجه مُسْلم 8/81 (7005 و 7006).