الإخلاص في القول والعمل

يعد اخلاص العمل لله تعالى شرطا في قبوله من الله عز وجل، ولذلك فقد كان تحقق الإخلاص شغلا ملازما للمتعبدين وخصوصا من رزقوا سعيا وإرادة للإصلاح القلوب والعناية بفقه معاملة الله اخلاصا له وتحقيقا لسمة العبودية الكالة لله تعالى.
وانطلاقا من أهمية تحرير القصد لله تعالى فسنتوقف في هذه الورقة مع قيمة مهمة من أمهات القيم التعبدية الكبرى المتمثلة في إخلاص العبودية لله.
أولا: مفهوم الإخلاص
أ/ في اللغة: الإخلاص هو التبري من كل ما سوى الله وفي لسان العرب: الإخلاص: ترك الرياء. وقد أخلصت لله الدين".
وقد فرق العلماء بين المخلِص والمخلَص على نحو مما ترى:
قال ثعلب يعني بالمخلصين: الذين أخلصوا العبادة لله تعالى، ويعني ويعني بالمخلصين: الذين أخلصهم الله عز وجل.
وقال الزجاج: المخلص الذي أخلصه الله، أي جعله مختارا، خالصا من الدنس. والمخلص: الذي وحد الله تعالى. ولذلك قيل لسورة «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ»: سورة الإخلاص، لأنها خالصة في صفة الله تعالى.
ب/ في الاصطلاح: وقد جاء في تعريفه اصطلاحا أقوال كثيرة، منها:
- قول إبراهيم بن آدم: أنه صدق النية مع الله تعالى. قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ /البينة). وَقَالَ: (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ. /الزمر).
- وقال سهل التستري: الإخلاص: "أن يكون سكون العبد وحركته لله تعالى خاصة".
- وقال الفضيل: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والاخلاص أن يعافيك الله منهما".
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة ويعمل الحسنة فيدخل بها النار قالوا كيف...؟
قال: يعمل الخطيئة، فلا تزال نصب عينية: إذا ذكرها ندم وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمنُّ بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل بها النار.
وقال القشيري: الإخلاص: "إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يـُريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر؛ من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني، سوى التقرب به إلى الله تعالى".
وقد وردت مادة الإخلاص ومشتقاتها في كتاب الله تعالى: إحدى وثلاثين مرة وتدور جميعها حول معان عديدة مثل:
- الانفراد: كما في قوله تعالى: (لَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (يوسف). أي انفردوا خالصين عن غيرهم.
- الصفاء: كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ/ النحل). أي صافيا. والخالص كالصافي إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي: قد يقال لما لا شوب فيه. ويقال: خَـلَّصْتُهُ فخلُص، ولذلك قال الشاعر:
وَضاقَت خُطَّةٌ فَخَلَصتُ مِنها ***خَلاصَ الخَمرِ مِن نَسجِ الفِدامِ.
-التبري عن كل ما دون الله: كما في قوله تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ/ لقمان). أي تبرؤوا مما كانوا يعبدون ودعوه وحده موحدين له، لا يدعون لخلاصهم سواه.
ثانيا: الإخلاص ومداخل الشيطان:
إن الإخلاص في كل عمل بغية كل متعبد ومجاهدة مستمرة لكل مخلص يقول الإمام أبو حامد الغزالي في الأحياء:" قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان، وأنوار القرآن: أن لا وصول إلى السعادة، إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكي إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبا مغمورا: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)".
وما قاله الغزالي سبق بنحوه العارف الرباني سهل بن عبد الله التستري، حيث قال: الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى، إلا من عمل بعلمه.
وفي لفظ آخر قال: الدنيا جهل وموت، إلا العلم، والعلم كله حجة (أي على صاحبه)، إلا العمل به، والعمل كله هباء، إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به.
وأما فيما يخص مداخل الشيطان وإغوائه لمن في الأرض فقد قال تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ/ الحجر).
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر (المخلِصين) بكسر اللام، فلا يملك الشيطان أن يزين لعباد الله المخلصين؛ لأنه عنهم محصور، ولأنهم منه في حمي، ولأن مداخله إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم وقلوبهم بالله.
إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع، فأما من يخلصون أنفسهم لله، فالله لا يتركهم للضياع، ورحمة الله أوسع بهم، ويكفي فخرًا وشرفًا أن الله نسبهم إلى نفسه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فعباد الله المخلصون لا يغويهم الشيطان، و(الغي) خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة الله كما أمر الله مخلصًا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء خشية ومحبة، والعبادة له وحده، وهذا يمنع السيئات".
وذكر ابن سعد في (الطبقات) عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أنه كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه، وإذا كتب كتابًا، فخاف فيه العجب مزَّقه.
ثالثا: فوائد الإخلاص
إنّ للإخلاص فوائد وثمرات كثيرة لا تُحصى، وذلك يجيء من أهميّة الإخلاص في حياة الفرد المسلم، وتلك الفوائد والثمرات تُنبئ عن عناية بالغة يجب أن يوليها المرء لموضوع الإخلاص، فلا يكون شعارًا يُردّد، ولكن يجب أن يكون فعلًا يختلط بلحم المسلم ودمه، ومن فوائد الإخلاص:

1- صحة العبادة: فشرط قَبول عبادة المسلم هو إخلاصها لوجه الله تعالى، لقوله تعالى في ختام سورة الكهف:)فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا( .
2- المخلص يساعد في نصر أمّته: إذ الإخلاص سبيل إلى نصر هذه الأمّة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما ينصرُ اللَّهُ هذِهِ الأُمَّةَ بضعفائها، بدعوتِهِم وصلاتِهِم وإخلاصِهِم".
3- أنّ المخلص ليس للشيطان سبيل عليه: لقوله عزّ وجلّ يذكر مقالة إبليس اللعين في سورة ص:)قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(.
4- أنّ المُخلِص من أهل الدعاء المُستجاب: كما حدث مع النفر الثلاثة الذين سُدّ عليهم الغار في حديث طويل أخرجه الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
5- أنّ المُخلص يحبّه الخلق: فالمخلص في أعماله لله تعالى يُحبّه الله، وإذا أحبّ الله تعالى عبدًا أمر أهل السماوات والأرض أن يحبّوه.
رابعا: خاتمة في ثمرات الإخلاص
إن الإخلاص هو السبب الأعظم في قبول الأعمال مع متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص يُثمر محبة الله للعبد، ثم محبة الملائكة، ووضع القبول في الأرض ويمكن أن نجمل ثمرات الإخلاص في الآتي:
1- الإخلاص أساس العمل، وروحه.
2- يُثمر الأجر الكبير والثواب العظيم بالعمل اليسير والدعاء القليل.
3- يُكتب لصاحب الإخلاص كل عمل يقصد به وجه الله، ولو كان مباحًا.
4- يُكتب لصاحب الإخلاص ما نوى من العمل ولو لم يعمله.
5- إذا نام أو نسي أو مرض العبد أو سافر كُتب له بإخلاصه ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا.
6- بالإخلاص ينصر الله الأمة، كما أنه يُثمر النجاة من عذاب الآخرة.
7- والإخلاص سبب لتفريج كروب الدنيا والآخرة.
8- رفع المنزلة في الآخرة يحصل بالإخلاص.
9- الإنقاذ من الضلال، وتحقق استجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، ودخول الجنة والنجاة من النار.
10- الإخلاص سبب لزيادة الهدى، كما أنه سبب للصِّيت الطيب عند الناس وحصول طمأنينة القلب والشعور بالسعادة، وحسن الخاتمة، وهذه الثمرات والفوائد أدلتها كثيرة من الكتاب والسنة.